lundi 1 octobre 2012

حول قياس دستوري فاسد





في خضم المجادلات الدائرة منذ قرابة السنة في تونس حول المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في 23 أكتوبر 2011 وحول خاصة التباطؤ الواضح المسجل في اضطلاعه بالمهمة التي انتخب من أجلها، أي وضع دستور للبلاد في أجل سنة من تاريخ انتخابه، يلجأ العديد من المعلقين للقياس عما حدث بين سنة 1956 وسنة 1959 من طول مدة عمل المجلس القومي التأسيسي المنتخب في 25 مارس 1956 والذي لم ينته من إعداد دستور البلاد إلا في غرة جوان 1959، أي أكثر من ثلاث سنوات من تاريخ انتخابه.
 وقد بنى الكثير انطلاقا من هذه التجربة التأسيسية الأولى، قياسا دستوريا فاسدا مفاده أن ما وقع إبان استقلال البلاد يمكن تكراره إثر ثورة 2011، متناسين عنوة ان الظروف الحالية غير تلك الظروف التاريخية العصيبة التي ميزت البلاد في فترة بناء الدولة للتخلص من براثن الاستعمار الغاشم وتحمل تبعات الحرب الاستعمارية بالجزائر، وغاضين خاصة الطرف عن حقيقة تباطؤ المجلس القومي التأسيسي المزعوم في أداء مهمته، موهمين المواطنين التونسيين، عن قصد، أن عدم الوفاء بالالتزام المقطوع من قبل أحد عشر حزبا في 15 سبتمبر 2011 في وثيقة المسار الانتقالي له ما يبرره من الحجج المستندة للتاريخ الدستوري التونسي.
وفي الحقيقة فقد تذكر هؤلاء شيئا (طول مدة إعداد دستور 1959) وغابت عنهم أشياء كثيرة :
أولا: خلافا لما جاء في الأمر الرئاسي )عدد 1086 لسنة 2011 المؤرخ في 3 أوت 2011 ) المتعلق بدعوة الناخبيين لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، فإن الأمر العلي المؤرخ في 29 ديسمبر 1955 المتعلق بإحداث مجلس قومي تأسيسي لم يتضمن في أي مادة من مواده تحديدا زمنيا لمهمة المجلس، وعليه فإن كل قياس بين الأمر العلي المذكور والأمر الرئاسي لسنة 2011 لا أساس له من الصواب وهو من باب السفسطة القانونية لا غير التي يؤتى بها لغرض التضليل وحجب الحقيقة.
ثانيا : خلافا لما يتردد بتواتر متعمد فإن الأمر العلي لسنة 1955 لم يكن له من العلو إلا الشكل، إذ يعلم الجميع أن كل ما نص عليه هذا الأمر أملي إملاء من طرف الزعماء الدستوريين على الحكومة وعلى البلاط الملكي. ومعلوم أنه لما حاول ابن الباي آنذاك (الأمير الشاذلي باي) إدخال تنقيحات على الأمر تتعلق خاصة بالمحافظة على امتيازات العائلة المالكة وتأخير عرض المشروع على "الطابع السعيد"، اندلعت أزمة بين القصر والحزب الدستوري انتهت بفوز هذا الأخير إذ أصدر الباي الأمر المذكور رغما عنه وهو واثق أنه أمضى على وثيقة نهايته ونهاية العهد الحسيني. وعليه فإن دور الباي كان شكليا لا غير وسلطته لا يمكن ربطها بأي شكل من أشكال الشرعية. على عكس ذلك فإن أمر 2011 صدر عن سلطة تتمتع بشرعية توافقية ووظيفية انتصبت إثر حصول إجماع حول إنهاء العمل بدستور1959 والاعتماد على مؤسسات انتقالية هدفها تنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. وقد تم تأكيد ما جاء بالأمر من تحديد زمني وموضوعي لمهمة المجلس الوطني التأسيسي باتفاق 15 سبتمبر 2011 حول المسار الانتقالي فجاءت الإرادة السياسية مؤكدة للقاعدة القانونية ومضفية عليها التزاما معنويا وأخلاقيا داعما للشرعية التوافقية. وإذا اعتقد البعض ان الأمر المذكور فاقد لكل شرعية فإن ذلك يؤدي إلى انتفاء الشرعية عن كل ما ترتب عنه من نتائج وأولها وبالذات انتخابات 23 أكتوبر 2011.
ثالثا: يدعي الكثير أن المجلس القومي التأسيسي لم يلتزم بالمحددات التي جاء بها الأمر العلي المذكور وخاصة ما قد اقتضاه فيما يتعلق بشكل النظام وما قد يكون فرضه على المجلس من إعداد دستور ملكي، مضيفين أن التزام المجلس بالأمر العلي ما كان ليتيح للمجلس القومي التأسيسي إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية . والموقف من هذه المسألة لا يخلو أيضا من تضليل ومن وقوف عند ظواهر الأمور. فالأمر العلي المذكور حدد مهمة المجلس ب"سن دستور لمملكتنا"، وذكر كلمة "مملكتنا" لا تأثير له على شكل النظام بل يشير إلى الإطار المكاني الذي دعي المجلس لإعداد دستور له، وهو المملكة التونسية التي عوضت الإيالة التونسية إثر اتفاقيات الحكم الذاتي الموقعة في 3 جوان 1955. فاستعمال كلمة "مملكتنا" في الأمرالعلي مرادف لاستعمال كلمة "البلاد" في أمر 2011 ولذلك فإن المجلس لم يخرج عن الإطار القانوني المحدث له.
رابعا: يردد الكثير، ودون رجوع للتاريخ والوثائق، ان إعداد دستور غرة جوان 1959 اقتضى ثلاث سنوات ونيف من العمل التأسيسي وهذا هو عين المغالطة ألتاريخية. فالمجلس القومي التأسيسي الذي افتتح أشغاله رمزيا في 8 أفريل 1956، أياما معدودات إثر الإمضاء على بوتوكول 20 مارس 1956، لم يخصص لعمله التأسيسي البحت سوى 19 جلسة من مجموع 52 جلسة عقدها بين 1956 و 1959. ففي سنة 1956 خصص المجلس جلستين لا غير لمناقشة الدستور. ولم يخصص المجلس سنة 1957 أي جلسة للدستور. وخلافا لما يظن البعض فإن مرد ذلك لم يكن لعدم استيفاء اللجان الخمسة عملها، بل لما طرأ من أحداث على الساحة الداخلية من انتهاكات الجيش الفرنسي المتواجد على الأراضي التونسية أو القادم من الجزائر للسيادة الوطنية أدت إلى إيلاء العناية والأولوية لجلاء القوات الفرنسية عن الثكنات التي كانت تحتلها في مواقع مختلفة من الوطن وخاصة بالجنوب التونسي. فاللجان التأسيسية قامت بما أنيط بعهدتها في الآجال المعقولة سواء في بداية عملها حول مشروع الملكية الدستورية أو إثر إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957، ناهيك أن مشروع الملكية الدستورية كان جاهزا منذ 9 جانفي 1957 (ثمانية أشهر بعد الانتخابات) في حين نشر مشروع الجمهورية الرئاسية المعروض على الجلسة العامة بالرائد الرسمي لمداولات يوم 27 جانفي 1958 (ستة أشهر لا غير بعد إعلان الجمهورية) وقدم المرحوم علي البلهوان تقريره العام في للجلسة العامة في نفس اليوم.
بناء على كل ما سبق، (ويمكن الرجوع إلى الكتاب الذي نشر في نطاق الجمعية التونسية للقانون الدستوري سنة 1986 والذي جمعت فيه أعمال الملتقي حول المجلس القومي التأسيس الملتئم بقصر المؤتمرات بتونس من 29 إل 31 ماي 1984 على كل الجزئيات والوثائق التي نشرت لأول مرة) يتضح أن كل قياس على ما وقع بين 1956 و 1959 لا يستقيم لا قانونا ولا منطقا وهو مبني في غالب الأحيان على مقارنات سطحية وعدم اطلاع على الوثائق وعلى مجريات العمل التأسيسي لسنة 1959. لذلك وجب الكف عن ترديد مثل هذه المغالطات وإيجاد الحلول التوافقية المثلى للانتهاء من إعداد الدستور في أسرع الآجال وتدارك ما فات من تضييع للوقت للخروج بالبلاد من هذه الفترة الانتقالية التي كلما تمددت تفاقمت سلبياتها السياسية والاقتصادية.