jeudi 26 mars 2020

النظام القانوني للمراسيم




أعلن رئيس الحكومة، السيد إلياس الفخفاخ، في بيانه إلى الشَعب، يوم 21 مارس 2020، عن عدد من الإجراءات للحدّ من تداعيّات وباء الكورونا اقتصاديّا واجتماعيّا بعد إقرار الحجر الصحّي الشّامل، وأعلن أيضا عن عزمه مطالبة السّلطة التشريعيّة "تمكين الحكومة من إصدار مراسيم لاتّخاذ التّدابير المستعجلة لمجابهة هذه الآفة غير المسبوقة في بلادنا وذلك حسب الفصل 70 من الدستور".
وبمجرّد صدور هذا الإعلان، تسابق السياسيون، في معركة شرسة صارت مألوفة، بين مؤيّد ورافض لهذا المقترح. فمنهم من لا يرى مانعا من تمكين رئيس الحكومة من صلاحية إصدار هذه المراسيم لمجابهة وضع استثنائي وللتعامل بالسّرعة المطلوبة مع الأزمة الصحية التي تواجهها البلاد (الكتلة الديمقراطية )، ومنهم (قلب تونس ) من يطالب رئيس الحكومة بتقديم مزيد من التوضيحات حول منحه هذا التفويض لإصدار المراسيم فيما يعتبر طرف اخر (حركة النّهضة ) وجود تضارب في تفعيل الفصلين 70 و 80 من الدستور بصفة متزامنة خاصة إثر صدور الأمرين الرئاسيين، عدد 24 لسنة 2020 المؤرخ في 18  مارس 2020 المتعلق بمنع الجولان بكامل تراب الجمهورية، وعدد 28 لسنة 2020 المؤرخ في 22 مارس 2020 يتعلق بتحديد الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان واللذين تم اتخاذهما بعد "الاطلاع على الدستور وخاصة الفصل 80 منه".
وتنفيذا لهذا الإعلان صادق مجلس الوزراء المنعقد يوم 24 مارس 2020، على "إحالة مشروع قانون يتعلق بالتفويض لرئيس الحكومة في إصدار مراسيم طبقا للفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور بعد إدخال التعديلات اللازمة عليه بهدف مزيد تحديد مجالاته إلى مجلس نواب الشّعب".
ويمكن التّساؤل عن موجبات هذا الجدل حول إعلان رئيس الحكومة ممارسة صلاحية يخوّلها له الدستور شرط موافقة مجلس نوّاب الشعب؟ أليست المراسيم إحدى الآليات الدستورية المعمول بها، لا في تونس فقط ولكن أيضا في العديد من الدول، لاتخاذ الإجراءات السريعة؟
جوابا على هذا السؤال لا بد من التّذكير بداية، أن المراسيم هي نصوص يصدرها رئيس الجمهورية في المجالات المخصصة للسلطة التشريعية التي جاء تعدادها خاصة بالفصل 65 من الدستور.
وللتّذكير أيضا، فإن دستور غرة جوان 1959، كان قد كرس وجود صنفين من المراسيم أضيف لهما صنف ثالث إثر التعديل الدستوري لـ 26 افري 1976. وهذه الأصناف الثلاثة هي:
- المراسيم المتّخذة خلال "عطلة المجلس باتفاق مع اللجنة القارة المختصة يقع عرضها على المجلس في دورته العادية المقبلة"(الفصل 31). وكان اتخاذ هذا الصنف متواترا ومنتظما بمناسبة كل عطلة برلمانية.
- المراسيم المتّخذة بناء على تفويض مجلس النواب "لمدة محدودة ولغرض معين ... يعرضها رئيس الجمهورية على مصادقة المجلس عند انقضاء المدة المذكورة". ولم يقع الالتجاء إلى هذا الصنف إلا إثر الثورة بمقتضى القانون عدد5 لسنة 2011 المؤرخ في 10 فيفري 2011المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور. وقد تم اتخاذ العديد من المراسيم بناء على هذا التفويض خلال الفترة الانتقالية السابقة لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي.
- المراسيم المتّخذة في حالة حل مجلس النواب يعرضه فيما بعد رئيس الجمهورية على مصادقة مجلس النواب.
ونشير أيضا إلى أن القانون الدّستوري المقارن أقر إمكانية تفويض السلطة التشريعية للحكومة. فقد خوّل الدستور المغربي المؤرخ في 29 جويلية 2011، في فصله 70 للحكومة اتخاذ مراسيم "للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود، ولغاية معينة، بمقتضى مراسيم تدابير يختص القانون عادة باتّخاذها، ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها. غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة، عند انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها، ويبطل قانون الإذن إذا ما وقع حل مجلسي البرلمان أو أحدهما". كما أجاز دستور الجمهورية الخامسة المؤرخ في 4 أكتوبر 1958، في الفصل 38 للحكومة في اتخاذ مراسيم (ordonnances) لمدّة محدودة لتنفيذ برنامجها. وكذلك الأمر بالنسبة للدستور الإيطالي لسنة 1947 حيث جاء في فصله 76 "لا يمكن تفويض ممارسة الوظيفة التشريعية للحكومة إلا إذا تم تحديد المبادئ والمعايير التوجيهية لفترة محدودة ولأغراض محددة فقط".
أما دستور 27 جانفي 2014، فإنه اقتضى وجود صنفين من المراسيم في الفصل 70. الصنف الأول من اختصاص رئيس الجمهورية بالتوافق مع رئيس الحكومة، في حالة حل مجلس نواب الشعب وتعرض هذه المراسيم على مصادقة المجلس في الدورة العادية التالية. أما الصنف الثاني، وهو محل الجدل، من اختصاص رئيس الحكومة حيث "يمكن لمجلس نواب الشعب بثلاثة أخماس أعضائه أن يفوض بقانون لمدة محدودة لا تتجاوز الشهرين ولغرض معين إلى رئيس الحكومة إصدار مراسيم تدخل في مجال القانون تعرض حال انقضاء المدة المذكورة على مصادقة المجلس".
ومن الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى بيان أن لجوء الحكومة لاتخاذ المراسيم ليس بدعة ابتدعتها الحكومة الحالية بل إنه إجراء دستوري يخضع لشروط موضوعية وإجرائية تفرضه المرحلة الاستثنائية التي وصفت بكونها "حرب".
فقانون التفويض لا يمكن أن يتجاوز مفعوله مدة 60 يوما، وهو بالتالي لا يشكل، كما يقول البعض، افتكاكا للسلطة التشريعية أو تجريدا لها من اختصاصاتها في التشريع وطبعا في مراقبة الحكومة. وقد عسر الدستور في الأغلبية المستوجبة إذ رفعها إلى نسبة غير معهودة بتاتا (3/5) كادت ترتقي إلى الأغلبية المستوجبة للقوانين الدستورية وهو ما يجعل التفويض مبنيا على توافق كبير.
أما من الناحية الموضوعية‘، فإن قانون التفويض ينص على الميدان الدقيق المخول للحكومة اتخاذ المراسيم فيه وعليه فهو تفويض خاص ومحدد وليس تفويضا شاملا، عاما وغير مقيد.
أخيرا، فإن المراسيم المتّخذة بناء على التّفويض التشريعي تخضع لمصادقة المجلس بمجرّد انقضاء مدة الشّهرين. فإذا ما صادق المجلس على المراسيم ترتقي المراسيم إلى مرتبة القانون. أما إذا لم تحظ المراسيم بمصادقة المجلس، تتوقف حالا آثارها القانونية بالنّسبة للمستقبل. أما الآثار القانونية التي أنشأتها خلال مدّة الشّهرين فهي تعتبر آثارا ناتجة عن قرار إداري قابلة للطعن بالإلغاء أمام القاضي الإداري. ويجري أجل الطعن بتجاوز السلطة ابتداء من يوم رفض مجلس نواب الشعب المصادقة أو من تاريخ انقضاء أجل الشهرين.
في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد للوحدة وللقرارات السريعة والحازمة، يبدو لنا أن الجدل الدائر حول المراسيم، يخفي مرة أخرى، وللأسف الشديد، معركة سياسوية يحاول كل طرف فيها فرض نفسه على الآخر، دون اعتبار المصلحة العليا للوطن وما تمليه من ضرورة التركيز الكلي واللامشروط على مجابهة الوضع الوبائي السائد.




lundi 23 mars 2020

الرئاسة الواحدة أو الرئاسات الثلاثة؟ بين الوحدانية والتثليث





ترددت قبل تسليم هذا المقال للنشر نظرا لحالة الاستنفار الوطنية ضد فيروس كورونا.
 لكن، وأخذا بعين الاعتبار هذه الحالة الصحية الاستثنائية التي يمر بها وطننا العزيز والتي تتطلب وحدة في الرأي والعزوف عن معرك المواقع، رأيت أنه من المفيد تقديم هذه المساهمة.


إثر إصدار المجلس الوطني التأسيسي القانون التأسيسي عدد 6 اسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011، والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية المعروف ب"الدستور الصغير"،" ظهر مصطلح صار دارجا ومتداولا وهو مصطلح "الرئاسات الثلاث"، أي آنذاك رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة المجلس الوطني التأسيسي، وهو مصطلح اقتبس، على الأرجح، من التقليد الدستوري اللبناني المبني على الطائفية حيث لا يمكن لأي من هذه الرئاسات التحرك دون الأخرتين.
ونتج عن كثرة تداول هذا المصطلح نوع من الخطإ الشائع، رغم أن القانون التأسيسي المذكور، علاوة أنه لم يستعمل هذه العبارة، ورغم عدم تنصيصه صراحة على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، إلا أنه أقر في فصله 11 ففقرة 1، أن "رئيس الجمهورية يمثل الدولة التونسية"، مما يوحي أن للدولة رئيس واحد ولا ثلاثة رؤساء.
على كل، وإذا ما سلمنا جدلا، أن العبارة كان لها أساس بين سنوات 2011 و2013 وإن كان نسبيا من الصحة في ظل القانون التأسيسي لسنة 2011، نتساءل عن مدى الوجاهة الدستورية لمصطلح الرئاسات الثلاثة في ظل دستور 27 جانفي 2014.
          نطرح هذا التساؤل لأن جدلا حام حول هذه المسألة وذلك إثر إعلان رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد يوم 19 فيفري 2020، عند تسليمه رسالة تكليف السيد إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة، أنه يوجد رئيس وحيد. فقد جاء على لسان رئيس الجمهورية: " سنعمل في انسجام تام، البعض مازال يتحدث عن رؤساء ثلاثة هناك رئيس دولة واحد وهناك رئيس للمجلس التشريعي ورئيس للحكومة'' وتابع قائلا: ''تفتت الدولة أو وجود بعض القوى داخلها انتهى، اليوم يجب أن ندخل مرحلة جديدة بتصور جديد مختلف وبإرادة جديدة حتى لا نقع في نفس الأخطاء التي عرفتها تونس في السابق''. وقد تولد عن هذا التصريح تجاذبات حادة، حيث رد رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس حزب حركة النهضة، راشد الخريجي الغنوشي على ورئيس الجمهورية قيس سعيد، وذلك يوم 22 فيفري 2020، وصرح " ان عهد السلطة المركزية انتهى وان ذلك لا يعني تشتيت الحكم ". وذكّر أيضا بأن "الدستور حدد صلاحيات الرئاسات الثلاث ووزع السلطة والحكم بين قرطاج والقصبة وباردو ".
            فهل أقر الدستور رئاسة واحدة أو أقر رئاسات ثلاثة أي هل كرس مبدأ الوحدانية أو مبدأ التثليث؟
إن الجواب على هذا السؤال يحتم علينا الانطلاق من أحد المبادئ التي جاءت في التوطئة والتي بمقتضاها أسس نواب الشعب التونسي، أعضاء المجلس الوطني التأسيسي "لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب ... وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها" ومبدأ الفصل بين السلطات لا يعني تجزئة الدولة ولكنه يقتضي تعامل السلطات فيم بينها في إطار مبدأ آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو مبدأ وحدة الدولة وقد جاء التنويه بهذا المبدأ صلب الفصل 14 من الستور حيث "تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة".
إثر هذا التذكير لا بد من استقراء عدد من فصول دستور 2014، المتعلقة برئيس الجمهورية. فهذا الأخير منتخب انتخابا عاما، حرا مباشرا من قبل الشعب (الفصل 75) وهو حسب الفصل 71 "رئيس الدولة " ولا أحد يشاركه في هذه الصفة ولا أحد غيره يحملها، وذلك يعنني أن رئيس الجمهورية ليس فقط أحد رأسي السلطة التنفيذية بل هو رئيس جميع مؤسسات الدولة.
وبصفته رئيسا للدولة جعل منه نفس الفصل 75 " رمز وحدة " الدولة والضامن "لاستقلالها ولاستمراريتها" والساهر "على احترام الدستور".
كما اسند الدستور لرئيس الجمهورية صلاحيات خاصة به باعتباره رئيسا للدولة وهي:
-        تمثيل الدولة
-        القيادة العليا للقوات المسلحة
-        إعلان الحرب وإبرام السلم
-        اتخاذ التدبير الاستثنائية
-        المصادقة على المعاهدات
-        إسناد الأوسمة
-        العفو الخاص
-        مخاطبة مجلس نواب الشعب
-        ختم القوانين والإذن بنشرها
يتبين من خلال ما تقدم أن الدستور لم يقر رئاسات ثلاثة، بل إن للدولة، واقعا ودستورا، رئيس واحد، وهذا مبدأ راسخ في القانون الدستورالمقارن بقطع النظر عن طبيعة النظام السياسي (رئاسي أو برلماني أو غير ذلك) وبقطع النظر عن الصلاحيات التنفيذية العريضة او المنعدمة للرئيس. فملكة المملكة المتحدة هي رئيسة الدولة رغم أنها "تسود ولا تحكم"، ورغم انعدام اختصاصاتها التنفيذية. ونفس الشيء ينطبق على رئيس الجمهورية الفيديرالية الألمانية وعلى غيره من ملوك ورؤساء الدول الأوروبية البرلمانية. ففي هذه الدول، ورغم إمساك الوزير الأول (المملكة المتحدة) أو رئيس الحكومة (إسبانيا) أو رئيس مجلس الوزراء (إيطاليا) أو المستشار (ألمانيا) بكامل مقاليد الدولة تقريبا، فإن الأولوية لرئيس الدولة هو يمثلها ويضمن استمراريتها، ولا حديث عندهم عن الرئيسين أو عن الرؤساء الثلاثة.  وفي المقابل فإن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هو رئيس الدولة علاوة على أنه يمسك بكامل السلطة التنفيذية. ونفس الشيء بالنسبة لرئيس الجمهورية الفرنسية ولا يشاركهما في هذه الصفة لا رئيس مجلس الممثلين ولا رئيس مجلس الشيوخ ولا رئيس الجمعية الوطنية ولا الوزير الأول.
بقي أن نشير إلى أن مصطلح الرئاسات الثلاثة كاد يندثر ولم يعد له أي استعمال خلال المدة الرئاسية للرئيس الباجي قائد السبسي – رحمه الله – (2014 – 2019)، وذلك لانتماء "الرؤساء الثلاثة" لنفس العائلة السياسية. ورغم الاختلافات التي نشبت، خاصة بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد والرئيس الراحل، فإن مصطلح الرئاسات الثلاثة لم يبرز للوجود. لكن هذا المصطلح طفح على السطح مجددا إثر انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية، وخاصة بسبب عدم انتماء رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب إلى نفس العائلة السياسية ويبدو أن التشبث بتثليث الرئاسات من الثوابت التي يحرص عليها رئيس المجلس لمنافسة رئيس الجمهورية. وقد لاحظ المواطنون العواقب الوخيمة لمعركة احتلال المواقع هذه من خلال التعاطي مع ما تقاسيه البلاد من ظروف عسيرة بسبب تفشي وباء فيروس كورونا وما تسبب فيه الجدل العقيم حول الاختصاصات من مضيعة للوقت وارتباك في اتخاذ القرارات الحازمة.
ختاما، إذا كان التعدد والاختلاف من المقتضيات الأساسية للديمقراطية، فإن وحدة الدولة لا يمكن أن تحشر في المعركة السياسية، والجدل حول وحدانية الرئاسة أو تثليثها لن يؤدي إلا للضعف والوهن والتخاصم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.