mardi 24 septembre 2013

سنة بعد انتهاء التفويض الشعبي: الشرعية: كلمة حق أريد بها باطل

تمر يوم 23 أكتوبر 2013 المقبل سنتان بالتمام والكمال (730 يوما) عن انتخاب المجلس الوطني التأسيسي. وقد كان من الفروض، قانونا وأخلاقا، أن تنتهي ولاية المجلس منذ السنة الماضية، وبالتدقيق يوم 23 أكتوبر 2012. لكن المجلس التأسيسي منذ تنصيبه، ومنذ انطلاقه في مناقشة مشروع القانون التأسيسي المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية ، أعلن عصيانه ونقضه للعهود والتوافقات وقراره عدم التقيد بأي أجل لإنهاء أعماله وكذلك عدم الاكتفاء بممارسة السلطة التأسيسية بل أيضا السلطة التشريعية ومراقبة الحكومة وصاغ قانونا نعت جزافا بالدستور الصغير استفردت فيه الحكومة بجميع السلطات. لقد اعتبر المجلس الوطني التأسيسي نفسه، وفي خرق صارخ للنصوص القانونية التي أوجدته وللالتزام السياسي الذي أمضت عليه جل الأحزاب السياسية الممثلة فيه، سلطة أصلية لا سلطة فوقها، سيدة نفسها تستمد من الشعب تفويضا أبديا لا حدود زمنية ولا موضوعية له. ولم يكتف المجلس بتجاهل الأجل القانوني بسنة الذي حدد له ، بل تجاوز ذلك بأن أسند لنفسه صلاحيات لم يفوضها له الصاحب الحقيقي للسلطة الأصلية (الشعب)، و نخص بالذكر منها ممارسة السلطة التشريعية، رغم أن كل النصوص القانونية والسياسية المؤطرة لإحداث المجلس الوطني التأسيسي ولانتخابه. ونذكر في هذا السياق بالمرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب مجلس وطني تأسيسي، الذي نص صراحة على أن الاختصاص الوحيد للمجلس ينحصر في وضع دستور للبلاد لا غير. فقد جاء في ديباجة هذا المرسوم الذي أعدته وصادقت عليه الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي، ولم تدخل السلطة التنفيذية عليه أي تعديل: "وانطلاقا من إرادة الشعب التونسي في انتخاب مجلس وطني تأسيسي يتولى وضع دستور جديد للبلاد". وكما لا يخفى فإن النصوص المسندة للاختصاص لا تؤول إلا تأويلا ضيقا وإلا عدَ عكس ذلك انحرافا بالسلطة وهو فعلا ما وقع فيه مجلسنا التأسيسي. كما يجب التذكير بالإعلان حول المسار الانتقالي والموقع عليه من قبل أحد عشر ممثل لأحزاب سياسية عضوة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي من بينهم راشد الغنوشي ومصطفى بن جعفر. ففي هذا الإعلان تعهد الممضون أسفل الوثيقة على أن "لا تتجاوز فترة المجلس الوطني التأسيسي سنة واحدة" حتى "تنصرف مختلف مؤسسات الدولة لمعالجة القضايا الأساسية العاجلة للبلاد" على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. وقد اعتبر راشد الغنوشي عتد سؤاله عن سبب عدم احترام تعهداته أن الخبراء الذين اقترحوا نص الإعلان غرروا به ولم يلفتوا نظره إلى ضرورة أجل اطول من السنة الواحدة !! عندما حل أجل السنة، يوم 23 أكتوبر 2012، وارتفعت الأصوات منبهة إلى انتهاء الشرعية الانتخابية والديمقراطية للمجلس وللمؤسستين المنبثقين عنه (رئاسة الجمهورية والحكومة) ونادت بضرورة إنهاء أعمال المجلس في أسرع وأقصر الآجال وتعويض الشرعية الانتخابية بشرعية توافقية لإنهاء الفترة الانتقالية بعيدا عن التجاذبات السياسية والتوصل إلى دستور توافقي يضمن الحريات والتعددية ومدنية الدولة ونظام سياسي متوازن قوامه علوية القانون واحترام حقوق الإنسان و قيم الجمهورية والتداول السلمي على السلطة. لكن لا حياة لمن تنادي، بل حصل العكس وانطلقت حملة تندد بـ"الانقلابيين والصائدين في الماء العكر" وبـ"الاستقواء بالخارج" وما إلى ذلك من العبارات الخشبية المتداولة والمألوفة في الأنظمة الكليانية، وما أشبه اليوم بالأمس. إذا منذ 23 أكتوبر 2012، دخلت تونس في حكم دولة اللاشرعية واللاقانون وانقلبت السلطة الشرعية إلى سلطة الأمر الواقع لا غير(autorité de fait). وقد تأكد ذلك تدريجيا منذ الاغتيال الغاشم للشهيد شكري بلعيد في 6 فيفري 2013 عندما أقر رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي بضرورة تشكيل حكومة كفاءات وإنهاء عمل المجلس التأسيسي في أسرع الآجال وتبين أنذاك أن حقيقة السلطة ليست بيد رئيس الحكومة وإنما بيد زعيم النهضة الذي أحبط مشروع الجبالي وقرر إعفاءه من مهامه. هكذا تواصلت الأمور كما هي وصارت كلمة الشرعية كلمة سحرية، حق أريد به باطل، لدحض كل مطالب المعارضة. وتمادي المجلس التأسيسي في روتينيته ضاربا عرض الحائط بكل الانتقادات الموجهة إليه . لم يتكرم علينا المجلس التأسيسي بـ"مسوَدته" الأولى إلا في 13 أوت 2012 وكأنه فعل ذلك لإسكات الأصوات التي تعالت محتجة عن تقصيره في أداء مهمته التي انتخب من أجلها وتمطيطه لمسار إعداد الدستور. فجاءت هذه المسوَدة حقيقة سوداء، (جعلت مثلا المرأة مكملة للرجل)، ووجهت لها انتقادات لاذعة شكلية وموضوعية من كل حدب وصوب. وصدرت المسوَدة الثانية في 14 ديسمبر 2012 لكنها لم تكن بأحسن من سابقتها وظل السواد مهيمنا على المشهد. تلت ذلك مناورة انطلاق النقاش العام للدستور في 23 أكتوبر 2012 وكان ذلك ذرا للرماد على العيون وطريقة لربح الوقت وإيهاما للرأي العام بقرب الوصول إلى شاطىء النجاة. ومنذ ذلك الحين توالت الإعلانات عن تواريخ الانتهاء من كتابة الدستور وتنظيم الانتخابات. وكلما أعلن طرف عن رزنامته سارع الطرف الآخر بتقديم رزنامة مضادة، وفاز المقرر العام للدستور على الجميع وتمكن من فرض إرادته ومغالطة الجميع. أمام انسداد الأفق دعى الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان لجولة جديدة من الحوار الوطني في 16 ماي 2013. وكان حزبان من الائتلاف الحاكم قد قاطعا الجولة الأولى من هذا الحوار. وتم الإعلان في البيان النهائي لجلسة 16 ماي 2013 على عدد من التوافقات السياسية لكن أغلبية المجلس الوطني التأسيسي بقيادة النهضة تنكرت مجددا للتوافقات السياسية المنجزة وأصرت بقيادة المقرر العام على التشبث بمشروعها. في هذه الظررف نظم ذلك "الحفل" السوريالي الذي تولى فيه الحبيب خذرصحبة مصطفى بن جعفر محاطين بنواب النهضة وتوابعها، وأمام ذهول بعض نواب المعارضة، "ختم" (!) مشروع الدستور في غرة جوان 2013 فاكتشف الجميع، بما فيهم بعض النواب من لأغلبية، مثل النائب عمر الشتوي، انحراف المقرر العام عما توصلت إليه اللجان من صياغة ومن توافقات زيادة على انفراده بصياغة باب كامل للأحكام الانتقالية يؤجل دخول الدستور بثلاثة سنوات بعد ختمه ونشره. هكذا توصل المجلس التأسيسي إلى تكوين شبه إجماع حول ضرورة رحيله إذ تبين للجميع أنه يمثل المشكل الحقيقي وأن لا نية له، لغرض في نفس يعقوب، في الانصراف قبل استكمال مدة السنتين على الأقل. فزيادة على فقدانه الشرعية الانتخابية فقد أيضا شرعية الأداء لما صدر عنه من "مسوَدات" هزيلة ومتضاربة الأحكام ولما امتاز به من تقاعس في أداء مهمته ومن تمديد وإضاعة وقت. رغم اتباع سياسية ربح الوقت، جرت الأمور بما لا تشتهي الترويكا الحاكمة، فاغتيل غدرا الشهيد محمد البراهمي يوم هب الشعب التونسي تلقائيا للاحتفال بعيد الجمهورية الذي تجاهله، كما تجاهل غيره من الأعياد الوطنية المجيدة رئيس الجمهورية المؤقت وحلفاؤه، فقرر أكثر من ستين نائبا بالمجلس التأسيسي تعليق عضويتهم به باعتبار أنه فقد كل شرعية وطالبوا برحيله وبرحيل المؤسسات المنبثقة عنه وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة. وهكذا انتظم اعتصام الرحيل واندفعت مئات الآلاف من التونسيين في 6 و 13 و24 و31 أوت و7 سبتمبر 2013 مطالبة برحيل المجلس والحكومة لانتفاء شرعيتهما. بالتوازي مع فقدانها لكل أشكال الشرعية آثرت الحكومة في تصرفاتها الممارسات المخالفة للقوانين ولما تقتضيه دولة القانون من ضوابط إجرائية وموضوعية. فعمدت لإقصاء الكفاءات والخبرات لتعويضهم بالأهل والأنصار والحلفاء وبإغراق الإدارة المركزية والجهوية والمنشئات والمؤسسات العمومية والبلديات (النيابات الخصوصية) بتسميات سياسية مبنية على الولاءات الحزبية غير مستندة للكفاءة العلمية والمهنية ودون اتباع الإجراءات القانونية المتعارف عليها ضاربة عرض الحائط بمبدأ حياد المرفق العام الراسخ قانونا وفقها وقضاء كل ذلك للتحكم في مفاصل الدولة(باعتراف رئيس الجمهورية نفسه). كما سنت السلطة الحاكمة إجراءات مخالفة لأبسط القواعد المرعية في مجال الانتدابات وفتحت الأبواب على مصراعيها لانتداب "المناضلين" الأوفياء ممن تمتعوا بالعفو دون مناظرات نزيهة وشفافة ودون التوقف عند الشروط العامة للانتداب بالوظيفة العمومية وخاصة منها شرط السن. وقد بين وزير التربية (المستقيل نظريا) بمناسبة العودة المدرسية كيف تم انتداب أساتذة ومعلمين وإطارات تربوية مباشرة من قبل رئاسة الحكومة دون علمه منهم من تجاوز سنه الخمسين سنة وأكل الدهر وشرب كفاءته المهنية. وفي نفس السياق، صار الالتجاء للقضاء سمة مميزة لحسم المشاكل بين الحكومة وبعض الأشخاص أو المجموعات دون أي سند قانوني ووقع الزج بالعديد منهم بالسجن تحفظيا من أجل شبهات واهية أو من أجل آراء. بل الأدهى والأمر في كل ذلك أن التتبعات تجرى بمقتضى نصوص قانونية نسخت وخرجت من دائرة التطبيق وعوضت بنصوص أخرى. ولعل أبرز تجليات هذه الوضعية تبرز من خلال تتبع عدد من الصحافيين بمقتضى قانون الصحافة الصادر سنة 1975 وبعض فصول المجلة الجنائية متخلية عن النص الخاص الذي عوض مجلة الصحافة وهو المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 والمتعلق بحرية الصحافة. لا يتسع المجال لتعديد وسرد كل الخروقات القانونية التي ارتكبت ومازالت ترتكب منذ وصول الترويكا للسلطة ولنا في مختلف القرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية فيما يتعلق بجرايات رئيس المجلس والنواب فيه او تركيبة الهيئة المستقلة للانتخابات أو النيابات الخصوصية عينة واضحة أن احترام القانون والإجراءات هو من أقل الأمور أهمية للسلطة وأن دولة القانون، التي هي من استحقاقات الثورة، وعلى غرار الشرعية ليست من اهتمامات السلطة الحالية. فإلى متى ستتواصل هذه الحالة من غياب الشرعية والتمسك المستميت بغنيمة السلطة ومتى تنعم تونس العزيزة بالانتقال للديمقراطية وبالشرعية الحقة ؟