أعلن رئيس الحكومة، السيد إلياس الفخفاخ، في
بيانه إلى الشَعب، يوم 21 مارس 2020، عن عدد من الإجراءات للحدّ من
تداعيّات وباء الكورونا اقتصاديّا واجتماعيّا بعد إقرار الحجر الصحّي الشّامل،
وأعلن أيضا عن عزمه مطالبة السّلطة التشريعيّة "تمكين الحكومة من إصدار
مراسيم لاتّخاذ التّدابير المستعجلة لمجابهة هذه الآفة غير المسبوقة في بلادنا
وذلك حسب الفصل 70 من الدستور".
وبمجرّد صدور هذا الإعلان، تسابق
السياسيون، في معركة شرسة صارت مألوفة، بين مؤيّد ورافض لهذا المقترح. فمنهم من لا
يرى مانعا من تمكين رئيس الحكومة من صلاحية إصدار هذه المراسيم لمجابهة وضع
استثنائي وللتعامل بالسّرعة المطلوبة مع الأزمة الصحية التي تواجهها البلاد
(الكتلة الديمقراطية )، ومنهم (قلب تونس ) من يطالب رئيس الحكومة بتقديم مزيد من
التوضيحات حول منحه هذا التفويض لإصدار المراسيم فيما يعتبر طرف اخر (حركة النّهضة
) وجود تضارب في تفعيل الفصلين 70 و 80 من الدستور بصفة متزامنة خاصة إثر صدور
الأمرين الرئاسيين، عدد 24 لسنة 2020 المؤرخ في 18 مارس 2020 المتعلق بمنع
الجولان بكامل تراب الجمهورية، وعدد 28 لسنة 2020 المؤرخ في 22 مارس 2020 يتعلق
بتحديد الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان واللذين تم اتخاذهما بعد "الاطلاع على الدستور وخاصة الفصل 80 منه".
وتنفيذا لهذا الإعلان صادق مجلس
الوزراء المنعقد يوم 24 مارس 2020، على "إحالة مشروع قانون يتعلق بالتفويض
لرئيس الحكومة في إصدار مراسيم طبقا للفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور بعد
إدخال التعديلات اللازمة عليه بهدف مزيد تحديد مجالاته إلى مجلس نواب الشّعب".
ويمكن التّساؤل عن موجبات هذا الجدل حول إعلان رئيس
الحكومة ممارسة صلاحية يخوّلها له الدستور شرط موافقة مجلس نوّاب الشعب؟ أليست
المراسيم إحدى الآليات الدستورية المعمول بها، لا في تونس فقط ولكن أيضا في العديد
من الدول، لاتخاذ الإجراءات السريعة؟
جوابا على
هذا السؤال لا بد من التّذكير بداية، أن المراسيم هي نصوص يصدرها رئيس الجمهورية
في المجالات المخصصة للسلطة التشريعية التي جاء تعدادها خاصة بالفصل 65 من
الدستور.
وللتّذكير
أيضا، فإن دستور غرة جوان 1959، كان قد كرس وجود صنفين من المراسيم أضيف لهما صنف
ثالث إثر التعديل الدستوري لـ 26 افري 1976. وهذه الأصناف الثلاثة هي:
- المراسيم
المتّخذة خلال "عطلة المجلس باتفاق مع اللجنة القارة المختصة يقع عرضها على
المجلس في دورته العادية المقبلة"(الفصل 31). وكان اتخاذ هذا الصنف متواترا
ومنتظما بمناسبة كل عطلة برلمانية.
- المراسيم المتّخذة بناء
على تفويض مجلس النواب "لمدة محدودة ولغرض معين ... يعرضها رئيس الجمهورية
على مصادقة المجلس عند انقضاء المدة المذكورة". ولم يقع الالتجاء إلى هذا
الصنف إلا إثر الثورة بمقتضى القانون عدد5 لسنة 2011 المؤرخ في 10 فيفري
2011المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من
الدستور. وقد تم اتخاذ العديد من المراسيم بناء على هذا التفويض خلال الفترة
الانتقالية السابقة لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي.
- المراسيم
المتّخذة في حالة حل مجلس النواب يعرضه فيما بعد رئيس الجمهورية على مصادقة مجلس
النواب.
ونشير أيضا إلى أن
القانون الدّستوري المقارن أقر إمكانية تفويض السلطة التشريعية للحكومة. فقد خوّل الدستور
المغربي المؤرخ في 29 جويلية 2011،
في فصله 70 للحكومة
اتخاذ مراسيم "للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود،
ولغاية معينة، بمقتضى مراسيم تدابير يختص القانون عادة باتّخاذها، ويجري العمل
بهذه المراسيم بمجرد نشرها. غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة، عند
انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها، ويبطل قانون الإذن إذا ما وقع حل
مجلسي البرلمان أو أحدهما". كما أجاز دستور الجمهورية الخامسة المؤرخ في 4
أكتوبر 1958، في الفصل 38 للحكومة في اتخاذ مراسيم (ordonnances) لمدّة محدودة لتنفيذ برنامجها. وكذلك الأمر بالنسبة للدستور
الإيطالي لسنة 1947 حيث جاء في فصله 76 "لا يمكن تفويض ممارسة الوظيفة
التشريعية للحكومة إلا إذا تم تحديد المبادئ والمعايير التوجيهية لفترة محدودة
ولأغراض محددة فقط".
أما
دستور 27 جانفي 2014، فإنه اقتضى وجود صنفين من المراسيم في الفصل 70. الصنف الأول
من اختصاص رئيس الجمهورية بالتوافق مع رئيس الحكومة، في حالة حل مجلس نواب الشعب
وتعرض هذه المراسيم على مصادقة المجلس في الدورة العادية التالية. أما الصنف
الثاني، وهو محل الجدل، من اختصاص رئيس الحكومة حيث "يمكن لمجلس نواب الشعب
بثلاثة أخماس أعضائه أن يفوض بقانون لمدة محدودة لا تتجاوز الشهرين ولغرض معين إلى
رئيس الحكومة إصدار مراسيم تدخل في مجال القانون تعرض حال انقضاء المدة المذكورة
على مصادقة المجلس".
ومن الأمور
الواضحة التي لا تحتاج إلى بيان أن لجوء الحكومة لاتخاذ المراسيم ليس بدعة ابتدعتها
الحكومة الحالية بل إنه إجراء دستوري يخضع لشروط موضوعية وإجرائية تفرضه المرحلة
الاستثنائية التي وصفت بكونها "حرب".
فقانون
التفويض لا يمكن أن يتجاوز مفعوله مدة 60 يوما، وهو بالتالي لا يشكل، كما يقول
البعض، افتكاكا للسلطة التشريعية أو تجريدا لها من اختصاصاتها في التشريع وطبعا في
مراقبة الحكومة. وقد عسر الدستور في الأغلبية المستوجبة إذ رفعها إلى نسبة غير
معهودة بتاتا (3/5) كادت ترتقي إلى الأغلبية المستوجبة للقوانين الدستورية وهو ما
يجعل التفويض مبنيا على توافق كبير.
أما من
الناحية الموضوعية‘، فإن قانون التفويض ينص على الميدان الدقيق المخول للحكومة
اتخاذ المراسيم فيه وعليه فهو تفويض خاص ومحدد وليس تفويضا شاملا، عاما وغير مقيد.
أخيرا،
فإن المراسيم المتّخذة بناء على التّفويض التشريعي تخضع لمصادقة المجلس بمجرّد
انقضاء مدة الشّهرين. فإذا ما صادق المجلس على المراسيم ترتقي المراسيم إلى مرتبة
القانون. أما إذا لم تحظ المراسيم بمصادقة المجلس، تتوقف حالا آثارها القانونية
بالنّسبة للمستقبل. أما الآثار القانونية التي أنشأتها خلال مدّة الشّهرين فهي
تعتبر آثارا ناتجة عن قرار إداري قابلة للطعن بالإلغاء أمام القاضي الإداري. ويجري
أجل الطعن بتجاوز السلطة ابتداء من يوم رفض مجلس نواب الشعب المصادقة أو من تاريخ
انقضاء أجل الشهرين.
في الوقت
الذي تحتاج فيه البلاد للوحدة وللقرارات السريعة والحازمة، يبدو لنا أن الجدل
الدائر حول المراسيم، يخفي مرة أخرى، وللأسف الشديد، معركة سياسوية يحاول كل طرف
فيها فرض نفسه على الآخر، دون اعتبار المصلحة العليا للوطن وما تمليه من ضرورة
التركيز الكلي واللامشروط على مجابهة الوضع الوبائي السائد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire