نصف قرن منذ وفاة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور
(1970 – 2020)
ما أحوجنا اليوم
لعلماء مثله
يمر هذه السنة، 2020، نصف قرن بالتّمام والكمال على رحيل المنعّم المبرور،
الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور، مفتي الجمهوريّة وعميد الكليّة الزّيتونية للشّريعة
وأصول الدّين، يوم 20 أفريل 1970، عن عمر لم يبلغ بعد الستّين سنة. ومع ذلك فإن
ذكراه وإشعاعه ما زالا قائمين إلى اليوم، وكأنه لم يغادر الحياة ولم يزل بيننا.
ويعدّ الشيخ علما
من أعظم ما أنجبت تونس من العلماء الأعلام ورواد الإصلاح التّربوي والدّيني والاجتماعي والثّقافي، نال السّبق والرّيادة في مجالات عدّة وخاصّة في العلوم الدّينية والفلسفة الإسلامّية واللّغة العربيّة.
من أعظم ما أنجبت تونس من العلماء الأعلام ورواد الإصلاح التّربوي والدّيني والاجتماعي والثّقافي، نال السّبق والرّيادة في مجالات عدّة وخاصّة في العلوم الدّينية والفلسفة الإسلامّية واللّغة العربيّة.
فهو "العالم" المتميز والمثقّف الموسوعي الذي لقّبه معاصروه، منذ
شبابه ‘بـ"العلامة البحر". وفي هذا المعنى حسبنا ما كتبه
عنه تلميذه، ورفيق دربه، وملازمه، وابنه الرّوحي الشّيخ محمّد الحبيب بلخوجة، رحمه
الله، " هرعنا شبابا إلى حلقات دروسه ومجالس محاضراته (...)،
فوجدنا علاّمة بحرا يحدّثك عن كل شيء، ويحاضرك في كل شيء، فمن درس في الأدب أو
البلاغة أو اللغة إلى تقريرات في التفسير والعقيدة، ومن بحث في الملل والمذاهب
العقديّة والكلاميّة إلى محاضرة في الاجتماع و أصوله والعمران البشريّ ودعائمه،
ومن بيان وتوضيح الفروع الحكميّة والفقهيّة مستندة إلى دراسات تاريخيّة وفلسفيّة
وتقييم حضري لكل الأحوال والملابسات والأطوار والعصور، شاهدنا ذلك ولمسناه في
مختلف الفنون التي كان يدرّسها بالجامع الأعظم، تلقّيناه وعشناه في المحاضرات والنّدوات
والمؤتمرات التي كان يلتف فيها النّاس من حوله ليفيدوا من معارفه، ويغترفوا من
فيضه، ويرتووا من مناهله".
وقد اضطلع ، بدور علمي تربوي كمدرّس
بالجامع الأعظم وبالمدرسة الصّادقية وبالمعهد العالي للحقوق وبكلية الحقوق بتونس،
وكعضو بمجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة وكعضو برابطة العالم الإسلامي بمكّة المكرّمة، وتولى
مهام شرعيّة ساميّة كمفت مالكي (1953) ثم كقاض مالكي بالمحكمة الشرعيّة (1956) ثم كرئيس دائرة بمحكمة التعقيب (1956)، وكان
له في الأربعينيات من القرن العشرين دور اجتماعي طلائعي ولا سيما كرئيس للجمعية
الخلدونية منذ سنة 1945 التي أنشأ صلبها ثلاثة معاهد عليا لمعاضدة التعليم
الزيتوني (معهد البحوث الإسلامية ومعهد الحقوق العربي سنة 1946 ومعهد الفلسفة سنة
1949)، ودور سياسي كعضو بالديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد إثر مؤتمر
ليلة القدر سنة 1946، بدور نقابي كمؤسس، وأوّل رئيس للاتحاد العام التونسي للشغل سنة
1946، ودور قومي كمناصر ومعرّف بالقضيّة الفلسطينية منذ نهاية الانتداب البريطاني قبل
الإعلان الرسمي عن قيام الكيان الصهيوني، وبعده خلال حرب فلسطين سنة 1948.
لقد كانت وفاته صدمة كبيرة وكانت مصدر حسرة وحزن عميقين، لا في بلده تونس
فقط، ولكن في عموم العالم العربي والإسلامي وأيضًا في الدول الغربية التي زارها
خلال حياته (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وما إلى ذلك).
وقد أوفدت البلدان الشقيقة
والصديقة وفودا رسمية لحضور الجنازة وتقديم التعازي للعائلة وكذلك للحكومة والشعب.
وكان موكب دفنه، في 22 أبريل 1970، في مقبرة الزلاج حدثا وطنيا نادرا، حضرته حشود
كبيرة من الرّجال والنّساء الّذين أصرّوا على التجمّع بالمرسى، مقر إقامته ومسقط
رأسه التي ولد بها في 16 أكتوبر 1909، وفي طريق موكب الجنازة من مدينة المرسى إلى العاصمة
وفي المقبرة نفسها لتوديعه الوداع الأخير.
هذا وقد حضر موكب الجنازة أعضاء الحكومة، برئاسة الوزير الأوّل آنذاك،
الراحل الباهي الادغم، والمشائخ وأساتذة وطلبة الكلية الزيتونة، وطلبة الشيخ من
أجيال مختلفة من الزيتونيين والصّادقيّين والجامعيّين، والوفود الرسمية وخاصّة الوفد
المغربي الذي أرسله الملك المرحوم الحسن الثاني، وأعضاء السلك الدّبلوماسي والقضاء،
إلخ. وتولّى الأستاذ محمد مزالي وزير التربية القومية آنذاك، تأبينه بعد أن تولّى
والده، الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، إمامة صلاة الجنازة بإيمان وشجاعة
ورضاء بقضاء الله لا مثيل له.
وخلال إحياء أربعينيته في موكب مشهود بالمسرح البلدي بتونس برئاسة صديقه
الدكتور الصادق المقدم، رحمه الله، وبحضور وفود من عدة بلدان، رثاه الشاعر عزيز
أباضة، باسم مجمع اللغة العربية بالقاهرة بقصيدة عصماء مما جاء فيها:
خلفت (مجمعك) الحزين وأنت في أعلامه العلم الأشم الفارع
وفي كل معضلة تهيج به ومبهمة تتشابه، فقولــك قاطـــع
تدلي به مستوثقا متواضعا لله ذلك العلم المتواضــع
وإذا خطبت فمصقع مسترسل لهجت به في المعجبين مصالح
وإذا احتشدت محاضرا أو شارحا انهال عنك العرض المتدافع
وإذا سكت فرب صمت، فاصل في
الخطاب، وللسكوت مواضع
وجمعت بين العلم والأدب نسق، وجمعها المسير الشاسع
واليوم، وقد مرّ نصف قرن كامل على رحيل الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، فإن
ذاكراه لا تزال عالقة في النّفوس، حيّة في تونس والعالم العربي والإسلامي. فصوته الجهوريّ
وفصاحته وبلاغته التي جبل عليها منذ الصغر لا تضاهى حتى يومنا هذا، مازالت محاضراته
تشدّ الخاصّ والعامّ لما تتولى الإذاعة الوطنية، خلال شهر رمضان، بث البعض منها،
خاصة تلك التي كان يلقيها كل شهر رمضان بالمملكة المغربية الشقيقة في نطاق الدروس
الحسنية في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني. وللأسف الشديد لم تحتفظ الإذاعة
التونسية بأحاديثه الأسبوعية التي دأب على تسجيلها منذ بعث الإذاعة التونسية سنة 1938، والتي جعل
لها عنوانا " حديث الأربعاء" بمناسبة حلول عميد الأدب العربي، الدكتور
طه حسين بتونس ستة 1957 وحضوره موكب نهاية السنة الدّراسية بالجامعة الزيتونيّة
بمحراب جامع الزيتونة المعمور مصحوبا برئيس الحكومة الزّعيم الحبيب بورقيبة وعميد
الجامعة الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور.
وفي هذه المناسبة، لا يسعنا إلا أن نترحم على الفقيد العظيم راجين متضرعين من
المولى جل جلاله، أن يجازيه الجزاء الأوفى عما قدّم للبلاد والعباد، ونتقدّم بالشّكر
الجزيل لمجلة "ليدرز" ومديرها المؤسس، السيد توفيق الحبيّب، عما يوليه
من اهتمام لتخليد ذكري رجال ونساء تونس الأفذاذ، وكذلك لرئيس تحرير النسخة العربية
من المجلة، الأستاذ عبد الحفيظ الهرقام، لما أبداه من عناية وحسن اهتمام لتخليد
هذه الذّكرى.
وما أحوجنا اليوم لأعلام مثل الشيخ
محمد الفاضل ابن عاشور، ونحن نعيش دهرا صار الدّين فيه مطيّة سياسية يركبها
الكثيرون، واختلط فيها الحابل بالنابل، حتى أصبح التفقّه في الدين والإفتاء ذريعة
لبثّ التّفرقة بين أبناء الشّعب الواحد وإقصاء نصف المجتمع، وللتعصّب الأعمى ورفض
الآخر وبثّ ثقافة العنف والموت.
رافع بن محمد الفاضل ابن عاشور
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire